تحت ضغطٍ متزايد من الحرب التجارية المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين ورسومهما الجمركية الباهظة، تجد شركة آبل نفسها أمام معضلة قد تعصف بمنظومتها التصنيعية التي اعتمدت لعقود، إلى حدٍّ كبير، على خطوط إنتاج عملاقة داخل الأراضي الصينية. فقد كشفت صحيفة فايننشال تايمز أنّ آبل وضعت بالفعل خطة محورية تقضي بنقل تجميع جميع هواتف آيفون الموجّهة إلى السوق الأميركية إلى الهند، على أن يبدأ تنفيذها مطلع العام المقبل، في محاولةٍ حثيثة لتقليص اعتمادها على الصين وتحصين سلسلة الإمداد من الهزّات السياسية والاقتصادية المقبلة.
خلفية الرسوم الجمركية المتبادلة
تأتي هذه الخطوة بعد أن فرضت واشنطن رسوماً جمركية قد تصل إلى 145 ٪ على مجموعة من الواردات الصينية في أحدث جولة من التصعيد، بينما ردّت بكين بفرض رسوم تصل إلى 125 ٪ على بضائع أميركية مختارة. هذا التبادل الحمائي يهدد بنياناً تنموياً ضخمًا قامت آبل ببنائه في الصين على مدى سنوات، حيث تستضيف مدن مثل تشنغتشو – التي تُلقّب بـ«مدينة الآيفون» – بالإضافة إلى ووهان وبكين وسواها، شبكات تصنيع متشعّبة يديرها شركاء كبار مثل فوكسكون وLuxshare Precision Industry، موزّعةً على عشرات المصانع وخطوط التجميع.
أرقام السوق الأميركية والتحدّي الهندي
بحسب بيانات السوق، يُباع في الولايات المتحدة أكثر من 60 مليون وحدة آيفون سنويًا. ولكي تلبّي هذا الطلب الضخم من خلال الإنتاج الهندي، تشير التقديرات إلى أنّ آبل ستحتاج إلى مضاعفة قدراتها التصنيعية في الهند في فترة زمنية قصيرة نسبيًا. لذلك سارعت الشركة إلى دخول شراكات موسّعة مع كيانات هندية ومحلية، في مقدمتها فوكسكون ومجموعة تاتا للإلكترونيات، لتأسيس مراكز إنتاج في ولايات جنوبية مثل كارناتاكا، إلى جانب التوسّع داخل مدينة بنغالور، العاصمة التقنية للهند.
ومن الجدير بالذكر أن فوكسكون تدير كذلك مصنعًا في مدينة حيدر آباد يركّز على تصنيع سماعات AirPods، بينما تتقاسم شركتا بيجاترون وويسترون أدوارًا داعمة في تجميع أجزاء مختلفة من أجهزة آبل داخل الهند. ومع ضخّ استثمارات جديدة، تأمل آبل أن ترتقي الطاقة الإنتاجية لهذه المجمّعات إلى المستوى المطلوب قبل تنفيذ خطط التحول الكبرى.
مكاسب تنويع جغرافي أشمل
لطالما راهنت آبل على الصين لبناء جذعٍ صلب لسلسلة توريد عالية الكفاءة، وهو ما انعكس على قيمتها السوقية التي تجاوزت 3 تريليونات دولار. إلا أنّ التقلبات الجيوسياسية الحالية جعلت الشركة تدرك ضرورة تبنّي خريطة تصنيع متعددة الأقطاب. ولهذا السبب، لا تقتصر رهاناتها على الهند فقط؛ إذ تواصل تعزيز وجودها في فيتنام التي أضحت بالفعل مركزًا حيويًا لتجميع حواسيب ماك وأجهزة آيباد، كما تخطّط للشروع في استثمارات محتملة داخل إندونيسيا، وإن كانت التفاصيل لا تزال طي الكتمان.
الرسوم الأميركية–الهندية والهدنة المؤقتة
الانتقال إلى الهند لا يخلو من تحديات هي الأخرى. فقد فرضت الولايات المتحدة في الفترة الماضية رسومًا متبادلة مع نيودلهي بلغت 26 ٪، لكن تم تعليقها لمدة 90 يومًا ضمن مفاوضات للتوصل إلى اتفاق تجارة ثنائي أوسع. ورغم هذا التجميد المؤقت، لا تزال رسوم أميركية عامة بنسبة 10 ٪ تطبَّق على واردات قادمة من الهند، ما يعني أنّ آبل بحاجة إلى مراقبة أي تحوّلٍ مفاجئ في السياسة التجارية كي لا تتكرر أزمة «الصين».
تعقيدات لوجستية وإدارية
حتى وإن نجحت آبل في نقل جزء كبير من خطوط التجميع إلى الهند، فلن يكون الأمر مجرّد خطوة تقنية؛ إذ ستواجه الشركة مسألة نقل الخبرات المتراكمة لدى عشرات الآلاف من العمالة الماهرة الصينية، إضافةً إلى إعادة تدريب كوادر هندية على معايير الجودة الصارمة. كما ستلزمها إعادة هيكلة سلاسل التوريد الفرعية لتلبية المواصفات الدقيقة لمكوّنات مثل الشرائح الإلكترونية والشاشات والبطاريات، التي ظلّت تصنع داخل الصين أو تُستورد عبر موانئها لعقود.
نظرة مستقبلية
إجمالاً، تُعدّ الخطوة الهندية حجر زاوية في «استراتيجية الفصل» التي تتّبعها آبل للحد من المخاطر الجيوسياسية. ومع التوسّع الموازي في فيتنام واستطلاع فرصٍ في إندونيسيا، يتشكل تدريجيًا مشهد تصنيع أكثر تنوعًا جغرافيًا، يمنح آبل قدرًا من المرونة في مواجهة التوترات التجارية المقبلة. ومع ذلك، يبقى نجاح الخطة مرهونًا بتعاون الحكومات المضيفة، واستقرار الاتفاقات الجمركية، وقدرة آبل على إعادة توزيع الخبرات التقنية بسرعة وكفاءة دون المساس بجودة منتجها الأيقوني.